0 تصويتات
في تصنيف مناهج دراسية بواسطة (1.1مليون نقاط)

هل وجود الغير شرط ضروري لمعرفة الأنا

مقالة جدلية الشعور بالانا والشعور بالغير لغات أجنبية من كتاب الهدى رحاب الفلسفة 

المقالة رقم: 36 (الطريقة جدلية)

هل وجود الغير شرط ضروري لمعرفة الأنا؟ (بكالوريا 2012 شعبة لغات أجنبية) هل الشعور بالأنا يتوقف على الغير أم أنه يبنى على الوعي والشعور ؟ * هل التواصل مع الغير أساس كاف لمعرفة الأنا وإثبات الذات؟ هل معرفة الإنسان بذاته تتوقف على وعيه أم على معرفته لغيره ؟ * يقول جون بول سارتر: «إن الآخر ليس شرطا فقط لوجودي؛ بل هو أيضا شرط للمعرفة التي أكونها عن نفسي حلل وناقش (بكالوريا 2009 شعبة علوم تجريبية - طرح السؤال على شكل استقصاء بالوضع). * هل شعور الإنسان بذاته متوقف على معرفته لنفسه فقط ؟ (بكالوريا 2016 - الدورة الإستثنائية - شعبة علوم تجريبية

طرح المشكلة من المشاكل النفسية التي ظلت تؤرق الإنسان هي محاولة التعرف على الذات التي تعني من الناحية الفلسفية الجوهر الثابت القائم بذاته والذي لا يتغير على الرغم مما يلحقه من تغير في أعراضه مثل الصحة والمرض والغنى والفقر والصبا والشيخوخة؛ فالتعايش الاجتماعي بين الناس يقتضي تشكيل نسيج من العلاقات بين الأفراد يحكمها التفاعل تأثيرا وتأثرا تنافرا وانجذابا، فكل فرد يسعى للتعبير عن ذاته وإثبات وجوده وتمييزها عن غيرها، والذات عموما تعني الشخصية الثابتة التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان. لكن الفلاسفة اختلفوا حول طريقة معرفة الذات وإدراك الأنا وظهر جدال بينهم فمنهم من يرى أن تمييز الذات مرتبط بالوعي والشعور ومنهم من يرى أنه متوقف على الغير. وهنا يجوز لنا التساؤل هل الشعور بالأنا يتوقف على الوعي والشعور أم أنه يعتمد على الغير؟ وبعبارة أوضح وأحسن هل الشعور بالأنا لا يتعدى وعي الشخص أم أنه مرتبط بالآخر ؟ وبتعبير آخر هل نعرف أنفسنا من خلال أنفسنا أم نعرف أنفسنا من خلال غيرنا ؟

محاولة حل المشكلة : عرض منطق الأطروحة يؤكد أنصار هذه الأطروحة أن الشعور بالأنا ومعرفة الذات ترتبط بالغير ويتوقف ذلك على التقابل والمغايرة والتناقض مع الغير. فلا

وجود لفردية متميزة بل هناك شعور جماعي موحد ويقتضي ذلك وجود الآخر والوعي به، فعن طريق الآخر نتعرف على وجودنا، وأهم هؤلاء الفيلسوف والراهب الايرلندي جورج باركلي Hegel )والفيلسوف الألماني هيغل (1770-1831م ،George Berkley )1753-1685(

الجمع والبراهين: وقد برروا موقفهم بالحجج التالية: إن الذات تتعرف على نفسها على أنها فردية متميزة عندما تقابل الغير أو الآخر أي أن هذه المعرفة تقتضي وجود الآخر وإدراكه والاعتراف به فالغير يعتبر أحد مكونات الوجود وهو يشاركنا الوجود وهو يقابلنا ويخالفنا وهذا ما يؤدي إلى تنبيه الذات لتقارن ذاتها بالآخر وتستنتج التمايز والاختلاف كما أن العقل عند مقارنته بين أفعالنا وأفعال غيرنا يلاحظ وجود صفات مشتركة وفق قانون المماثلة، فالإنسان عندما يرى غيره مبتسما يحكم بأنه مسرورا، وهذا يعني أننا إذا أردنا أن نعرف الغير فإننا نلاحظ أنفسنا ونحكم بعد ذلك على الغير بما نعرفه عن أنفسنا. إلا أن هذه العلاقة القائمة على قانون المماثلة تبقي الآخر دائما خارجا عن الذات ومتميزا عنها ومغايرا لها، فقد أكد باركلي أن التعرف على الذات والغير يكون عن طريق المقارنة بين أفعالنا والمعاني التي تصحبها في ذهننا وبين الغير فنستنتج بالتجربة التماثل في هذه الأفعال بيننا وبين الآخر أو الاختلاف معه مثال ذلك أن التلميذ الممتاز قد لا يدرك تميزه واجتهاده لوحده لكن مقارنة

نفسه مع غيره من التلاميذ خاصة الضعاف المستوى يجعله يدرك مستواه ويعرف ذاته. يؤكد الفيلسوف الألماني ماكس شيلر (1947-1928م) (Max Scheiler أن التعاطف

والحب ومشاركة الغير مشاعرهم وآلامهم وأفراحهم يعبر عن تواصل إنساني حقيقي لأن المشاركة العاطفية عمل قصدي يتجه نحو الغير فكل ذات أرادت أو لم ترد تتواصل مع مجتمعها الذي تعيش فيه وتأخذ منه اللغة التي تتكلم بها والقيم الأخلاقية التي تدافع عنها والأهداف التي تعمل من أجلها حيث يقول ماكس شيلر: « التعاطف والحب هما الطريق المعبر عن التواصل الحقيقي بالغير .. وخير مثال عن التعاطف مع الغير كطريقة لمعرفة الذات قصة مخترع المصباح الكهربائي الأمريكي توماس إديسون (1847-1931م) Thomas Edison فلما كان طفلا كان شريد الذهن في كثير من الأحيان بالمدرسة، حيث وصفه أستاذه بأنه فاسد» إذ أنهى إديسون ثلاثة أشهر من الدراسة الرسمية فقط. ويذكر إديسون في وقت لاحق، والدتي هي من صنعتني، لقد كانت واثقة بي؛ حينها شعرت بأن الحياتي هدفا، وأنها

شخص لا يمكنني خذلانه فقد كانت والدته تقوم بتدريسه في المنزل ويرجع لها الفضل في

العبقرية التي اكتسبها.

يرى الفيلسوف الألماني هيغل في سياق علاقة الأنا بالغير أن وجود الآخر ضروري لوجود الوعي بالذات، وهي علاقة أساسها التناقض والصراع كعلاقة السيد بعبده، فكل واحد منهما يثبت ذاته من خلال وجود الآخر، فالسيد يتناقض مع خصمه العبد لكنه لا يقتله بل يبقيه حتى يجسد من خلاله سيادته وملكه له ويعزز قوة ذاته فيه، والعبد يتناقض مع سيده الخصم لكنه يثبت ذاته من خلال القيام بالأعمال التي كلفه بها سيده مهما كانت درجة صعوبتها، هذا الصراع يؤدي في النهاية إلى أن يدرك كل منهما أناه وفي الوقت نفسه يدرك خصمه الذي هو الآخر. ومعرفة الخصم الآخر ليس الهدف منها المعرفة وعزل الإنسان نفسه عنه، بل هي معرفة الهدف منها التغلب عليه والتحرر منه، على اعتبار أن الآخر شر لا بد منه. إن استمرارية الوجود مع الغير هي قدر السيد والعبد أو هي قضاء الأنا والغير معا. ذلك أن الاعتراف بالغير هو شرط وجوده والاعتراف بذات الأنا هو جوهر وجودها. وهذا ما يظهر في العالم اليوم فكل أمة تحاول إثبات ذاتها بالدخول في صراع مع الأمم الأخرى ولعل ما حدث في الحربين العالميتين خير مثال فقد حاولت ألمانيا الدخول في صراع مع بقية دول العالم حتى تثبت أنها الأفضل. ولعل هذا ما يفسر كره زعيم النازية هتلر الشديد لليهود فهم أيضا كانوا ومازالوا يدعون أنهم الأفضل بين الأمم (شعب الله المختار) لذلك عمل هتلر على إبادتهم وقتلهم لأنهم شاركوه نفس الفكرة. حيث يقول هتلر: « لن أرحم الضعفاء حتى يصبحوا أقوياء، وإن أصبحوا أقوياء فلا تجوز عليهم الرحمة ، كما يقول هيغل: " إن الإنسان مستعد لأن يخاطر بحياته، ويقضي بالتالي على حياة الآخر، كي ينال اعتراف الآخر، ويفرض

نفسه كقيمة عليا على الآخر، فإن مواجهتهما لا يمكن أن تكون إلا صراعا حتى الموت ..

يرى الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر (1905-1980م) Jean Paul Sartre أن الآخر يعتبر مقوما أساسيا ومكونا للأنا والوعي به إذ يرى أن المحبة ليس معناها الرغبة في امتلاك الغير كفرد حر، والذين نحبهم في الواقع لا نمتلكهم بل نتواصل معهم بطريقة وجدانية ايجابية لأننا برأي سارتر لا نمتلك في الحقيقة إلا الأشياء مثال ذلك أن الشاب في حاجة إلى الغير وإلى علاقة الصداقة معه لأنه يجد فيه مصدرا للنصيحة ويبحث فيها عن من ينقذه من

الوقوع في المواقف الخاطئة ونفس الأمر مع الشيخ فعلاقة الصداقة مع الغير تعتبر مصدر قوة لذاته وهي سند ودعم في مختلف أعماله وأنشطته. وفي ذلك يقول سارتر: «فوجود الآخر شرط لوجودي، وشرط لمعرفة نفسي، وعلى ذلك يصبح اكتشافي لدواخلي اكتشافا للآخر، وقال أيضا: «إني في حاجة إلى وساطة الغير لأكون ما أنا عليه» وفي قول آخر: «إن الغير ليس فقط من أشاهده، بل هو من يشاهدني أيضا»، ويقول أيضا: «إننا لا نكشف أنفسنا في عزلة ما؛ بل في

الطريق في المدينة وسط الجماهير شيئا بين الأشياء.

يعتقد الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر (1889-1978م) Martin Heidegger أحد مؤسسي المذهب الوجودي ( إن العالم الذي أنا موجود فيه هو عالم أتقاسمه مع الآخرين؛ لأن الوجود في العالم هو وجود في العالم مع الآخرين.. والوجود هنا هو وجود مع الغير »، إذ يثبت هيدغر هنا أن العلاقة مع الغير هي من صميم الوجود فوجود الأنا يرتبط بالوجود مع الغير بل لا يكون إلا داخل هذه العلاقة مع الغير مثال ذلك أن وجود الأفراد الذين نحبهم هو الذي يجعل لذواتنا معنى وقيمة فكثير من الناس يفقد لذة الحياة إذا مات شخص يحبه والكثير منهم لا يتحمل ذلك ويشعر بفراغ كبير في ذاته وقد ينتحر في أسوأ الحالات.

النقد والمناقشة: صحيح أن الغير يلعب دورا مهما في معرفة الذات لكن ذلك لا ينبغي أن يتحول إلى هيمنة على الذات وسلب معناها لأنها كيان مستقل وهوية فردية متميزة فمها كنا نعيش في المجتمع فلا يمكن لأحد أن ينفذ إلى أعماقنا ويعبر عن حقيقتها ويفهمها فالآخر أقصى ما يقدمه للذات لا يكاد يتجاوز العلاقات الظاهرية والمجاملات اللفظية السطحية كما أن الغير لا يمكن أن يشاركنا عواطفنا مهما كان قريبا منا لأنها مشاعر خاصة لا يحياها إلا صاحبها. كما أن ربط معرفة الذات بالغير في إطار التناقض والصراع لا يؤدي دائما إلى الاعتراف بالآخر فهو يدعو إلى الهيمنة والتناحر وفق غريزة حيوانية البقاء فيها للأقوى. إن المغايرة لا تعني الأنا المنفرد بالوجود دون غيره، وهي ليست على الدوام علاقة صراع فالمغايرة نفسها تولد التقارب والتفاهم والتجاذب. فالآخر ليس دائما خصما ولا يجب أن يتحول إلى شيء لا بد من تدميره كما يعتقد هيغل، بل الغير ضروري لبناء ذات قوية. فقد تختلف الذوات وتتنوع الرؤى الفكرية الكثيرة ولكن لا يفسد ذلك ودا جماعيا، وهي : علاقة

أقرها الله سبحانه وتعالى في قوله: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض

ولكن الله ذو فضل على العالمين.

إن الاختلاف في التصورات والمواقف مهما بلغت حدتها ودرجتها بين بني البشر لا تبرر التناحر على البقاء والصراع من أجل السيطرة، لأن علاقة الصراع والسيطرة وإلغاء الآخر واعتباره شرا يجب القضاء عليه علاقة تتناسب مع مملكة الحيوان الذي يحكمه قانون الغاب، أما الإنسان فباستطاعته أن يستبدل علاقته مع غيره من علاقة سلبية أساسها الصراع والتنافر والكراهية وحب السيطرة إلى علاقة ايجابية أساسها التواصل عن طريق التعاون والتجاذب

والمحبة، واتصالنا بالغير عن طريق التعاطف.

عرض نقيض الأطروحة: في المقابل يؤكد بعض الفلاسفة أن معرفة الذات تتوقف على الوعي والشعور فالوعي يعتبر ميزة جوهرية وأساسية في الذات وهو الأساس الذي تتوقف عليه معرفتها وهو المصاحب لها طيلة وجودها وأي غياب للوعي يعتبر غيابا للذات وانعداما لها وأهم هؤلاء نجد الفيلسوف الفرنسي رونيه ديكارت (1596-1650م) René Descartes وأيضا مواطنه الفيلسوف مان دو بيران (1766-1824م) Maine De Biran وزعيم الفلسفة

الظواهرية الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل (1859-1938م) Edmund Husserl.

الحجج والبراهين وقد برروا موقفهم بالحجج التالية: يؤكد ديكارت أن كل ذات تعي ذاتها وتعرف حقيقة أناها وما يجري فيها من انفعالات كالفرح والحزن والغضب وما يصدر عنها من سلوكات لأن الوعي هو الذي يعبر عن حقيقة الذات ويميزها ويصاحب كل فعالياتها فالوعي هو المرجع الأساسي لتمييز الذات عن العالم الخارجي وإثبات وجودها والمقصود بالوعي المعرفة المباشرة لما يجري في النفس من غير واسطة أو جهد عقلي، وهذا ما أثبته ديكارت في مقولته الشهيرة التي تعرف باسم الكوجيتو: «أنا أفكر إذن أنا موجود Je pense donc je suis فالنفس البشرية أو الذات لا تنقطع عن التفكير إلا إذا انعدم وجودها فالشعور هو الذي يؤكد لنا أننا موجودون وأن الغير موجود وأن العالم موجود فالتفكير هو جوهر الأنا فتنعكس الأنا على ذاتها شاكة ومتسائلة لتثبت وجودها وحدها بغض النظر عن

الآخرين وبغض النظر عن جسدها.

يرد في قاموس محيط المحيط وعى الشيء والحديث يعيه وعيا: حفظه وتدبره وقبله وجمعه وحواه، وأوعى الشيء والكلام حفظه وجمعه، ووعى الغلام ناهز الإدراك. فالوعي (وهو مرادف الشعور) يعني ! لغة الإحاطة بالشيء وحفظه واستيعابه والتعامل . معه أو تدبره. إنها

حالة إدراك الشيء وتعقله، كما يرد بصدد المراهقة. أما قاموس Petit Robert الفرنسي فيرجع كلمة وهي Conscience إلى أصلها اللاتيني الذي يعني المعرفة والاستيعاب. ويجعل من الوعي تلك المعرفة المباشرة للنشاط النفسي الذاتي، بمعنى أن الرجل الواعي هو ذلك الذي يعرف واقعه الخاص، ويحكم على هذه المعرفة. إنها إذا حالة التبصر بأمور الذات وتقويم واقعها. ومن هنا تأتي أهمية الوعي، بما هو مقدمة وشرط مسبق لإدارة الذات والنفس واتخاذ القرار والخيار. إننا كما يقول القاموس بصدد ملكة معرفة الذات. وهو ما يصب في المعنى الفلسفي لمفهوم الوعي الذي يدل على الحالة أو الفعل الذي يتعرف فيه الشخص على ذاته بما هي كذلك، ويتميز فيه عن الشيء الذي يعرفه إننا نعي ذاتنا وبالتالي كياننا، كما نعي واقعنا ونحكم على أحواله، في الآن عينه الذي نعي فيه الأشياء أي ندركها ونتعقلها، مما يؤهل المرء لإدارة ذاته والتعامل مع واقعه. كما يعتبر وليم جيمس الوعي أنه ذلك السيل المتحرك دوما من الأفكار والمشاعر والمدركات. كما أكد وليم جيمس انطلاقا من مقولة ديكارت الشهيرة: أنا أفكر إذن أنا موجود على مظهر ثان للوعي أي الوعي بالذات، ففي الآن عينه تدرك فيه الأشياء والوقائع والأفكار، فإننا نعي أننا أصحاب هذه الأفكار وصانعوها. إنها سيطرة

يتبع في الأسفل 

1 إجابة واحدة

0 تصويتات
بواسطة (1.1مليون نقاط)
 
أفضل إجابة
هل وجود الغير شرط ضروري لمعرفة الأنا

يتبع المقالة رقم: 36 (الطريقة جدلية)

. إنها

حالة إدراك الشيء وتعقله، كما يرد بصدد المراهقة. أما قاموس Petit Robert الفرنسي فيرجع كلمة وهي Conscience إلى أصلها اللاتيني الذي يعني المعرفة والاستيعاب. ويجعل من الوعي تلك المعرفة المباشرة للنشاط النفسي الذاتي، بمعنى أن الرجل الواعي هو ذلك الذي يعرف واقعه الخاص، ويحكم على هذه المعرفة. إنها إذا حالة التبصر بأمور الذات وتقويم واقعها. ومن هنا تأتي أهمية الوعي، بما هو مقدمة وشرط مسبق لإدارة الذات والنفس واتخاذ القرار والخيار. إننا كما يقول القاموس بصدد ملكة معرفة الذات. وهو ما يصب في المعنى الفلسفي لمفهوم الوعي الذي يدل على الحالة أو الفعل الذي يتعرف فيه الشخص على ذاته بما هي كذلك، ويتميز فيه عن الشيء الذي يعرفه إننا نعي ذاتنا وبالتالي كياننا، كما نعي واقعنا ونحكم على أحواله، في الآن عينه الذي نعي فيه الأشياء أي ندركها ونتعقلها، مما يؤهل المرء لإدارة ذاته والتعامل مع واقعه. كما يعتبر وليم جيمس الوعي أنه ذلك السيل المتحرك دوما من الأفكار والمشاعر والمدركات. كما أكد وليم جيمس انطلاقا من مقولة ديكارت الشهيرة: أنا أفكر إذن أنا موجود على مظهر ثان للوعي أي الوعي بالذات، ففي الآن عينه تدرك فيه الأشياء والوقائع والأفكار، فإننا نعي أننا أصحاب هذه الأفكار وصانعوها. إنها سيطرة

العمليات العقلية العليا على الواقع والوجود الذاتي وتسييرهما.

ويرى علماء النفس أن للوعي عموما وظيفتين رئيسيتين هما المراقبة والتوجيه: فالوعي يراقب الذات والمحيط، ويضبط الفكر والسلوك وظيفة المراقبة في الوعي هي أشبه ما تكون بكاميرا فيديو متحركة تمسح المحيط وترصد المدركات التي يحتمل أن تكون ذات دلالة كما ترصد الأفكار والمشاعر والأهداف وحلول المشكلات التي يحتمل أن تكتسي، نظرا لدلالتها، أهمية من نوع ما بالنسبة للشخص. وأما وظيفة التوجيه فإنها تسمح للشخص أن يبدأ أفكارا وسلوكات للوصول إلى هدف ما، أو ينهيهما. ولذلك ينشط الوعي عادة حين يختار الشخص

بين أحد بديلين لحل مشكلة ما.

وتتكامل وظيفتا المراقبة والتوجيه في التعامل مع الذات ومع الواقع والوجود. ويتدخل الوعي حين تفشل عمليات المعرفة الآلية العادات السلوكية اليومية في التعامل مع الوضعية. وكأنه أشبه ما يكون بالمشرف في المصنع الذي لا ينتج السلعة، بل يراقب حسن الإنتاج، ولا يتدخل إلا حين يلاحظ خللا ما يتعين تصحيحه على الفور. وعليه يبدو أن

الوعي، من وجهة نظر تطورية، قد ظهر لتوجيه السلوك في اتجاه أكثر تكيفا وفاعلية، وذلك على عكس الاستجابات الانعكاسية التلقائية. يقوم الوعي إذا بوظيفة هامة جدا تتمثل في تعزيز التكيف النشط للمحيط ( تلاؤما مع معطياته، وتغييرا لبعضها الآخر) بما يخدم حمايته

وبقاءه وتقدمه (1)

دعم هذا الموقف هنري برغسون مؤسس علم النفس الاستبطاني الذي يرى أن الإنسان يدرك ذاته إدراكا مباشرا فهو يدرك تخيلاته وأحاسيسه بنفسه إذ لا يوجد في ساحة النفس إلا

الحياة الشعورية.

زيادة على أن هناك حجة نفسية أخرى فالدليل على الطابع الواعي للسلوك النفسي هو شهادة الشعور ذاته كملاحظة داخلية إذ يستطيع الإنسان أن يتعرف على ذاته عن طريق الاستبطان أو التأمل الذاتي. الاستبطان (معرفة الباطن أو تعرف الباطن) Introspection هو معاينة الفرد لعملياته العقلية أو هو المعاينة الذاتية. ويُعرفه بعضهم بأنه ملاحظة الشخص المنظمة لما يجري في شعوره من خبرات وتجارب حسية أو عقلية أو انفعالية تصف هذه الحالات وتحللها وتؤولها أحياناً، سواء أكانت حاضرة كحالة الحزن أو الغضب أم ماضية كأحلام النوم. وهو أيضا ملاحظة داخلية لما يجري في النفس من فرح وحزن وغضب حيث ينقلب الفرد إلى شاهد على نفسه ليعلم أن له ذاتا أو نفسا حقيقية تميزه عن الآخرين، ومازال لهذا المنهج أهميته وضرورته في دراسة بعض الظواهر النفسية، كذلك كان أساساً للعديد من الأدوات والمقاييس النفسية خاصة في دراسة الشخصية وأبعادها المختلفة وقياس خصائصها وسماتها، فالإجابة على غالبية الاستخبارات التي تقيس الشخصية تعتمد على استبطان الفرد لذاته، كذلك المقابلة التي تعتمد على ما يقرره الفرد عن ذاته وأيضا في دراسة الأحلام. وترجع جذور هذه النظرية إلى الفلسفة اليونانية وبالتحديد إلى آراء سقراط (479-399 ق. م) Socrate، الذي اعتقد أن الإنسان يعرف نفسه ويستطيع الحكم عليها وعلى أحوالها وأفعالها وقد عبر عن ذلك بمقولته الشهيرة: اعرف نفسك بنفسك. ومن أنصار منهج الاستبطان

أيضا العالم الفرنسي مونتانيه Montagnier الذي يقول: «لا أحد يعرف هل أنت جبان أو

طاغية إلا أنت، فالآخرون لا يرونك أبدا. يعتبر أفضل مثال على ذلك فالفنان المقلد لغيره سرعان ما ينساه الناس لأنهم يهتمون بالأصل بعكس الفنان المجدد والمبدع فقد كان الرسام التشكيلي والنحات الاسباني بابلو بيكاسو (1973-1881م) Pablo Picasso مثلا ثائرا على كل المدارس الفنية المنتشرة في عصره لذلك اثبت ذاته وترك بصمته في التاريخ، فقد رسم كما أوحت له ذاته ونفسه لا كما طالبه النقاد أو الناس، يقول الفيلسوف الفرنسي مان دوبيران يفرض الأنا نفسه من خلال معارضته

إن اندماج الذات في الغير يفقدها خصوصيتها واستقلاليتها فالفرد الذي يقلد الآخرين مثلا يفقد خصوصيته وتميزه بعكس الفرد المبدع الذي يعمل وفق ما توحي له نفسه ولعل الفن

للآخرين».

النقد والمناقشة: صحيح أن الإنسان كائن عاقل وأن الوعي يلعب دورا مهما في معرفة الذات لكن هناك الكثير من الفلاسفة الذين اعترضوا على ذلك وبينوا نقصه وعجزه في معرفة الذات فالوعي الذاتي قد يكون مجرد تأمل ميتافيزيقي يعبر عن أوهام لا تمثل حقيقة الذات كالمبالغة والتضخيم والجهل والغرور. كما أن اعتبار الوعي هو المؤسس للذات ووجودها قد يكون مجرد خداع وانطباعات خاطئة تعبر عن ظلال الحقيقة وليس جوهرها. وهو ما أشار إليه الفيلسوف اليوناني أفلاطون (429-347 ق.م) Platon في أسطورة الكهف (1).

(1) - يحكي أفلاطون في هذه الأسطورة عن أناس مقيدين منذ نعومة أظافرهم في كهف مظلم، بحيث تعوقهم تلك

القيود من الالتفات إلى الوراء أو الصعود خارج الكهف في الكهف هناك ما يشبه النافذة التي يطل منها نور ينبعث من شمس مقابلة للكهف بين النور ونافذة الكهف هناك طريق يمر منه أناس يحملون أشياء عديدة، وحينما تضرب أشعة النور في تلك الأشياء تنعكس ظلالها على الجدار الداخلي للكهف. هكذا لا يرى السجناء داخل الكهف من الأشياء الموجودة خارج الكهف إلا ظلالها. وقد حدث أن تم تخليص أحدهم من قيوده، بحيث تمكن من الصعود خارج الكهف. وقد أدرك أن الأشياء خارج الكهف تختلف عن الأشياء بداخله، بحيث تعتبر هذه الأخيرة مجرد ظلال أو نسخ للأولى. هكذا سر بما رآه ثم قرر بعد ذلك العودة إلى الناس داخل الكهف لإخبارهم بحقيقة ما شاهده، وتنبيههم إلى حالة الأخطاء والأوهام التي

يعيشونها. لكنهم سوف لن يصدقونه بل سيحاولون قتله. ومعنى هذه الأسطورة أن حياتنا في هذا العالم المحسوس هي حياة السجناء في الكهف، فنحن أثناءها مقيدون بجسمنا لا نستطيع أن ندرك إلا ما هو محسوس عن ذواتنا. وبالرغم من أن هذا المحسوس لا يمثل إلا ظلال الحقيقة، فإننا مع ذلك نتعامل معه على أنه الحقيقة.

إن الشعور من وجهة نظر طبيب الأعصاب النمساوي سيغموند فرويد (1856-1939م) Sigmund Freud غير قادر على الوصول إلى معرفة الجانب الآخر من النفس وهو اللاشعور باعتباره الجانب الأعمق والأكبر من النفس وبالتالي غير قادر على معرفة الذات معرفة حقيقية كالمجرم الذي لا يعرف أن العنف الذي تعرض له في صغره قد يكون سبب سلوكه الإجرامي. وأحيانا يعتقد الإنسان خطأ أن وعيه قادر على معرفة ذاته فيقع في مغالطة مع نفسه، أي أن الصورة التي يشكلها وعيه حول ذاته تكون مخادعة أو مخيبة، لأن الكثير من عواطفنا ومدركاتنا معرضة لتأثيرات الآخرين مما توقعنا في الخطأ أو الخداع. فالكثير من الناس يظن نفسه أفضل من الآخرين وأنه يملك قدرات خارقة وأنهم أقل درجة وذكاء منه لكنه يكون واهما. وفي ذات السياق اعترض الفيلسوف الهولندي سبينوزا (1632-1677م) Spinoza على تفسير الذات بالشعور، فوصف الشعور بالوهم والمغالطة، واعتقاد الناس بأنهم أحرار في تصرفاتهم برأيه ظن خاطئ لعدم وعيهم بسلطان رغباتهم وشهواتهم، إنهم لا يعلمون شيئا عن الأسباب المتحكمة والموجهة لشعورهم. ومثاله في ذلك السكير الذي يتوهم أنه يتحدث عن وعي وعن إرادة حرة في موضوعات يتجنب الحديث عنها في حالة صحوه،

ولكنه في الواقع هو تحت تأثير الخمرة ولا يعي ما يقول.

وبالنسبة لمنهج الاستبطان الذي يعني وعي الذات لذاتها فهو أمر مستحيل لأن الذات واحدة ولا يمكنها أن تشاهد ذاتها بذاتها لأنه في هذه العملية يتحد موضوع المعرفة مع الذات العارفة وهذا ما يجعل الدراسات عن النفس غير موضوعية وغير صادقة مثال ذلك إذا اعتقد الطفل أن أمه تكرهه أو تحب أخاه أكثر منه فعليه أن يسألها لتصحح اعتقاده وتبين

له انه مجرد وهم.

التركيب: إن معرفة الذات لا تتوقف على الوعي ولا على الصراع والتناقض مع الآخر بل تقوم على أساس التواصل بين الذات والآخر المبني على أساس من القيم الأخلاقية مثل المحبة والصداقة والتعايش والإيثار ونبذ العنف والتناحر والإقصاء إضافة إلى مبدأ الوعي والشعور المصاحب للذات في كل أحوالها والذي يعتبر المحرك لكل تلك الأسس مجتمعة يقول المفكر

العربي المعاصر محمد عزيز الحبابي: «إن معرفة الذات تكمن في أن يرضى الشخص بذاته ضمن

هذه العلاقة: الأنا كجزء من النحن في العالم».

الرأي الشخصي: حسب رأيي فإنه لا يجب الاكتفاء بطرح العلاقات بين الذات والغير طرحا فلسفيا خالصا، بل لا بد أن تأخذ هذه العلاقات بعدا واقعيا عمليا بإثراء الدعوة إلى خلق أسباب التنافس المشروع سعيا وراء ترقية الإنسانية وتنمية غرائز الحياة والبناء. فمعرفة الذات تتطلب الحذر من تذويب الأنا في الغير أي التقليد، وألا يعيش الإنسان في بروج عاجية أي في عزلة عن الغير فلا يعرف عنهم شيئا ولا يسعى إلى ذلك فيصيبه الغرور والكبرياء

الزائد؛ وألا يُصدر أحكاما مسبقة قطعية على الغير قياسا على نفسه.

حل المشكلة: نستنتج في الأخير أن الإنسان متشابك الأبعاد ويحمل الكثير من المتناقضات لذلك فمعرفة الذات والأنا تتأسس على الوعي والشعور بتلك المتناقضات وهذا في إطار أخلاقي من التنافس مع الغير ومقارنة أفعالنا وذواتنا معهم ودون هدم الكرامة الإنسان سواء عن طريق التواصل أو التناقض فوعي الإنسان بذاته متوقف على معرفة الآخرين باعتبارهم كائنات تستحق المعاشرة والاحترام والتزكية ومغايرته لهم إن كانت ضرورية لتثبيت الذات وتأكيد خصوصيتها لا تكتمل ولا تزدهر إلا بوجود الغير والعمل معهم، يقول جون بول سارتر: ( إن الغير ليس فقط من أشاهده بل هو من يشاهدني أيضا »، ويقول الفيلسوف الفرنسي المعاصر جيل دولوز (1925-1980م) Gilles Deleze في كتابه (ما الفلسفة ؟): «لن

يكون الغير سوى الذات الأخرى كما تتبدى لي أنا».

اسئلة متعلقة

0 تصويتات
1 إجابة
0 تصويتات
1 إجابة
سُئل فبراير 26، 2024 في تصنيف مناهج دراسية بواسطة alnabth (1.1مليون نقاط)
مرحبًا بكم إلى موقع النابض دوت كوم ، حيث يمكنك طرح الأسئلة وانتظار الإجابة عليها من المستخدمين الآخرين.
...