هل وجود الغير شرط ضروري لمعرفة الأنا
مقالة جدلية الشعور بالانا والشعور بالغير لغات أجنبية من كتاب الهدى رحاب الفلسفة
المقالة رقم: 36 (الطريقة جدلية)
هل وجود الغير شرط ضروري لمعرفة الأنا؟ (بكالوريا 2012 شعبة لغات أجنبية) هل الشعور بالأنا يتوقف على الغير أم أنه يبنى على الوعي والشعور ؟ * هل التواصل مع الغير أساس كاف لمعرفة الأنا وإثبات الذات؟ هل معرفة الإنسان بذاته تتوقف على وعيه أم على معرفته لغيره ؟ * يقول جون بول سارتر: «إن الآخر ليس شرطا فقط لوجودي؛ بل هو أيضا شرط للمعرفة التي أكونها عن نفسي حلل وناقش (بكالوريا 2009 شعبة علوم تجريبية - طرح السؤال على شكل استقصاء بالوضع). * هل شعور الإنسان بذاته متوقف على معرفته لنفسه فقط ؟ (بكالوريا 2016 - الدورة الإستثنائية - شعبة علوم تجريبية
طرح المشكلة من المشاكل النفسية التي ظلت تؤرق الإنسان هي محاولة التعرف على الذات التي تعني من الناحية الفلسفية الجوهر الثابت القائم بذاته والذي لا يتغير على الرغم مما يلحقه من تغير في أعراضه مثل الصحة والمرض والغنى والفقر والصبا والشيخوخة؛ فالتعايش الاجتماعي بين الناس يقتضي تشكيل نسيج من العلاقات بين الأفراد يحكمها التفاعل تأثيرا وتأثرا تنافرا وانجذابا، فكل فرد يسعى للتعبير عن ذاته وإثبات وجوده وتمييزها عن غيرها، والذات عموما تعني الشخصية الثابتة التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان. لكن الفلاسفة اختلفوا حول طريقة معرفة الذات وإدراك الأنا وظهر جدال بينهم فمنهم من يرى أن تمييز الذات مرتبط بالوعي والشعور ومنهم من يرى أنه متوقف على الغير. وهنا يجوز لنا التساؤل هل الشعور بالأنا يتوقف على الوعي والشعور أم أنه يعتمد على الغير؟ وبعبارة أوضح وأحسن هل الشعور بالأنا لا يتعدى وعي الشخص أم أنه مرتبط بالآخر ؟ وبتعبير آخر هل نعرف أنفسنا من خلال أنفسنا أم نعرف أنفسنا من خلال غيرنا ؟
محاولة حل المشكلة : عرض منطق الأطروحة يؤكد أنصار هذه الأطروحة أن الشعور بالأنا ومعرفة الذات ترتبط بالغير ويتوقف ذلك على التقابل والمغايرة والتناقض مع الغير. فلا
وجود لفردية متميزة بل هناك شعور جماعي موحد ويقتضي ذلك وجود الآخر والوعي به، فعن طريق الآخر نتعرف على وجودنا، وأهم هؤلاء الفيلسوف والراهب الايرلندي جورج باركلي Hegel )والفيلسوف الألماني هيغل (1770-1831م ،George Berkley )1753-1685(
الجمع والبراهين: وقد برروا موقفهم بالحجج التالية: إن الذات تتعرف على نفسها على أنها فردية متميزة عندما تقابل الغير أو الآخر أي أن هذه المعرفة تقتضي وجود الآخر وإدراكه والاعتراف به فالغير يعتبر أحد مكونات الوجود وهو يشاركنا الوجود وهو يقابلنا ويخالفنا وهذا ما يؤدي إلى تنبيه الذات لتقارن ذاتها بالآخر وتستنتج التمايز والاختلاف كما أن العقل عند مقارنته بين أفعالنا وأفعال غيرنا يلاحظ وجود صفات مشتركة وفق قانون المماثلة، فالإنسان عندما يرى غيره مبتسما يحكم بأنه مسرورا، وهذا يعني أننا إذا أردنا أن نعرف الغير فإننا نلاحظ أنفسنا ونحكم بعد ذلك على الغير بما نعرفه عن أنفسنا. إلا أن هذه العلاقة القائمة على قانون المماثلة تبقي الآخر دائما خارجا عن الذات ومتميزا عنها ومغايرا لها، فقد أكد باركلي أن التعرف على الذات والغير يكون عن طريق المقارنة بين أفعالنا والمعاني التي تصحبها في ذهننا وبين الغير فنستنتج بالتجربة التماثل في هذه الأفعال بيننا وبين الآخر أو الاختلاف معه مثال ذلك أن التلميذ الممتاز قد لا يدرك تميزه واجتهاده لوحده لكن مقارنة
نفسه مع غيره من التلاميذ خاصة الضعاف المستوى يجعله يدرك مستواه ويعرف ذاته. يؤكد الفيلسوف الألماني ماكس شيلر (1947-1928م) (Max Scheiler أن التعاطف
والحب ومشاركة الغير مشاعرهم وآلامهم وأفراحهم يعبر عن تواصل إنساني حقيقي لأن المشاركة العاطفية عمل قصدي يتجه نحو الغير فكل ذات أرادت أو لم ترد تتواصل مع مجتمعها الذي تعيش فيه وتأخذ منه اللغة التي تتكلم بها والقيم الأخلاقية التي تدافع عنها والأهداف التي تعمل من أجلها حيث يقول ماكس شيلر: « التعاطف والحب هما الطريق المعبر عن التواصل الحقيقي بالغير .. وخير مثال عن التعاطف مع الغير كطريقة لمعرفة الذات قصة مخترع المصباح الكهربائي الأمريكي توماس إديسون (1847-1931م) Thomas Edison فلما كان طفلا كان شريد الذهن في كثير من الأحيان بالمدرسة، حيث وصفه أستاذه بأنه فاسد» إذ أنهى إديسون ثلاثة أشهر من الدراسة الرسمية فقط. ويذكر إديسون في وقت لاحق، والدتي هي من صنعتني، لقد كانت واثقة بي؛ حينها شعرت بأن الحياتي هدفا، وأنها
شخص لا يمكنني خذلانه فقد كانت والدته تقوم بتدريسه في المنزل ويرجع لها الفضل في
العبقرية التي اكتسبها.
يرى الفيلسوف الألماني هيغل في سياق علاقة الأنا بالغير أن وجود الآخر ضروري لوجود الوعي بالذات، وهي علاقة أساسها التناقض والصراع كعلاقة السيد بعبده، فكل واحد منهما يثبت ذاته من خلال وجود الآخر، فالسيد يتناقض مع خصمه العبد لكنه لا يقتله بل يبقيه حتى يجسد من خلاله سيادته وملكه له ويعزز قوة ذاته فيه، والعبد يتناقض مع سيده الخصم لكنه يثبت ذاته من خلال القيام بالأعمال التي كلفه بها سيده مهما كانت درجة صعوبتها، هذا الصراع يؤدي في النهاية إلى أن يدرك كل منهما أناه وفي الوقت نفسه يدرك خصمه الذي هو الآخر. ومعرفة الخصم الآخر ليس الهدف منها المعرفة وعزل الإنسان نفسه عنه، بل هي معرفة الهدف منها التغلب عليه والتحرر منه، على اعتبار أن الآخر شر لا بد منه. إن استمرارية الوجود مع الغير هي قدر السيد والعبد أو هي قضاء الأنا والغير معا. ذلك أن الاعتراف بالغير هو شرط وجوده والاعتراف بذات الأنا هو جوهر وجودها. وهذا ما يظهر في العالم اليوم فكل أمة تحاول إثبات ذاتها بالدخول في صراع مع الأمم الأخرى ولعل ما حدث في الحربين العالميتين خير مثال فقد حاولت ألمانيا الدخول في صراع مع بقية دول العالم حتى تثبت أنها الأفضل. ولعل هذا ما يفسر كره زعيم النازية هتلر الشديد لليهود فهم أيضا كانوا ومازالوا يدعون أنهم الأفضل بين الأمم (شعب الله المختار) لذلك عمل هتلر على إبادتهم وقتلهم لأنهم شاركوه نفس الفكرة. حيث يقول هتلر: « لن أرحم الضعفاء حتى يصبحوا أقوياء، وإن أصبحوا أقوياء فلا تجوز عليهم الرحمة ، كما يقول هيغل: " إن الإنسان مستعد لأن يخاطر بحياته، ويقضي بالتالي على حياة الآخر، كي ينال اعتراف الآخر، ويفرض
نفسه كقيمة عليا على الآخر، فإن مواجهتهما لا يمكن أن تكون إلا صراعا حتى الموت ..
يرى الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر (1905-1980م) Jean Paul Sartre أن الآخر يعتبر مقوما أساسيا ومكونا للأنا والوعي به إذ يرى أن المحبة ليس معناها الرغبة في امتلاك الغير كفرد حر، والذين نحبهم في الواقع لا نمتلكهم بل نتواصل معهم بطريقة وجدانية ايجابية لأننا برأي سارتر لا نمتلك في الحقيقة إلا الأشياء مثال ذلك أن الشاب في حاجة إلى الغير وإلى علاقة الصداقة معه لأنه يجد فيه مصدرا للنصيحة ويبحث فيها عن من ينقذه من
الوقوع في المواقف الخاطئة ونفس الأمر مع الشيخ فعلاقة الصداقة مع الغير تعتبر مصدر قوة لذاته وهي سند ودعم في مختلف أعماله وأنشطته. وفي ذلك يقول سارتر: «فوجود الآخر شرط لوجودي، وشرط لمعرفة نفسي، وعلى ذلك يصبح اكتشافي لدواخلي اكتشافا للآخر، وقال أيضا: «إني في حاجة إلى وساطة الغير لأكون ما أنا عليه» وفي قول آخر: «إن الغير ليس فقط من أشاهده، بل هو من يشاهدني أيضا»، ويقول أيضا: «إننا لا نكشف أنفسنا في عزلة ما؛ بل في
الطريق في المدينة وسط الجماهير شيئا بين الأشياء.
يعتقد الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر (1889-1978م) Martin Heidegger أحد مؤسسي المذهب الوجودي ( إن العالم الذي أنا موجود فيه هو عالم أتقاسمه مع الآخرين؛ لأن الوجود في العالم هو وجود في العالم مع الآخرين.. والوجود هنا هو وجود مع الغير »، إذ يثبت هيدغر هنا أن العلاقة مع الغير هي من صميم الوجود فوجود الأنا يرتبط بالوجود مع الغير بل لا يكون إلا داخل هذه العلاقة مع الغير مثال ذلك أن وجود الأفراد الذين نحبهم هو الذي يجعل لذواتنا معنى وقيمة فكثير من الناس يفقد لذة الحياة إذا مات شخص يحبه والكثير منهم لا يتحمل ذلك ويشعر بفراغ كبير في ذاته وقد ينتحر في أسوأ الحالات.
النقد والمناقشة: صحيح أن الغير يلعب دورا مهما في معرفة الذات لكن ذلك لا ينبغي أن يتحول إلى هيمنة على الذات وسلب معناها لأنها كيان مستقل وهوية فردية متميزة فمها كنا نعيش في المجتمع فلا يمكن لأحد أن ينفذ إلى أعماقنا ويعبر عن حقيقتها ويفهمها فالآخر أقصى ما يقدمه للذات لا يكاد يتجاوز العلاقات الظاهرية والمجاملات اللفظية السطحية كما أن الغير لا يمكن أن يشاركنا عواطفنا مهما كان قريبا منا لأنها مشاعر خاصة لا يحياها إلا صاحبها. كما أن ربط معرفة الذات بالغير في إطار التناقض والصراع لا يؤدي دائما إلى الاعتراف بالآخر فهو يدعو إلى الهيمنة والتناحر وفق غريزة حيوانية البقاء فيها للأقوى. إن المغايرة لا تعني الأنا المنفرد بالوجود دون غيره، وهي ليست على الدوام علاقة صراع فالمغايرة نفسها تولد التقارب والتفاهم والتجاذب. فالآخر ليس دائما خصما ولا يجب أن يتحول إلى شيء لا بد من تدميره كما يعتقد هيغل، بل الغير ضروري لبناء ذات قوية. فقد تختلف الذوات وتتنوع الرؤى الفكرية الكثيرة ولكن لا يفسد ذلك ودا جماعيا، وهي : علاقة
أقرها الله سبحانه وتعالى في قوله: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض
ولكن الله ذو فضل على العالمين.
إن الاختلاف في التصورات والمواقف مهما بلغت حدتها ودرجتها بين بني البشر لا تبرر التناحر على البقاء والصراع من أجل السيطرة، لأن علاقة الصراع والسيطرة وإلغاء الآخر واعتباره شرا يجب القضاء عليه علاقة تتناسب مع مملكة الحيوان الذي يحكمه قانون الغاب، أما الإنسان فباستطاعته أن يستبدل علاقته مع غيره من علاقة سلبية أساسها الصراع والتنافر والكراهية وحب السيطرة إلى علاقة ايجابية أساسها التواصل عن طريق التعاون والتجاذب
والمحبة، واتصالنا بالغير عن طريق التعاطف.
عرض نقيض الأطروحة: في المقابل يؤكد بعض الفلاسفة أن معرفة الذات تتوقف على الوعي والشعور فالوعي يعتبر ميزة جوهرية وأساسية في الذات وهو الأساس الذي تتوقف عليه معرفتها وهو المصاحب لها طيلة وجودها وأي غياب للوعي يعتبر غيابا للذات وانعداما لها وأهم هؤلاء نجد الفيلسوف الفرنسي رونيه ديكارت (1596-1650م) René Descartes وأيضا مواطنه الفيلسوف مان دو بيران (1766-1824م) Maine De Biran وزعيم الفلسفة
الظواهرية الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل (1859-1938م) Edmund Husserl.
الحجج والبراهين وقد برروا موقفهم بالحجج التالية: يؤكد ديكارت أن كل ذات تعي ذاتها وتعرف حقيقة أناها وما يجري فيها من انفعالات كالفرح والحزن والغضب وما يصدر عنها من سلوكات لأن الوعي هو الذي يعبر عن حقيقة الذات ويميزها ويصاحب كل فعالياتها فالوعي هو المرجع الأساسي لتمييز الذات عن العالم الخارجي وإثبات وجودها والمقصود بالوعي المعرفة المباشرة لما يجري في النفس من غير واسطة أو جهد عقلي، وهذا ما أثبته ديكارت في مقولته الشهيرة التي تعرف باسم الكوجيتو: «أنا أفكر إذن أنا موجود Je pense donc je suis فالنفس البشرية أو الذات لا تنقطع عن التفكير إلا إذا انعدم وجودها فالشعور هو الذي يؤكد لنا أننا موجودون وأن الغير موجود وأن العالم موجود فالتفكير هو جوهر الأنا فتنعكس الأنا على ذاتها شاكة ومتسائلة لتثبت وجودها وحدها بغض النظر عن
الآخرين وبغض النظر عن جسدها.
يرد في قاموس محيط المحيط وعى الشيء والحديث يعيه وعيا: حفظه وتدبره وقبله وجمعه وحواه، وأوعى الشيء والكلام حفظه وجمعه، ووعى الغلام ناهز الإدراك. فالوعي (وهو مرادف الشعور) يعني ! لغة الإحاطة بالشيء وحفظه واستيعابه والتعامل . معه أو تدبره. إنها
حالة إدراك الشيء وتعقله، كما يرد بصدد المراهقة. أما قاموس Petit Robert الفرنسي فيرجع كلمة وهي Conscience إلى أصلها اللاتيني الذي يعني المعرفة والاستيعاب. ويجعل من الوعي تلك المعرفة المباشرة للنشاط النفسي الذاتي، بمعنى أن الرجل الواعي هو ذلك الذي يعرف واقعه الخاص، ويحكم على هذه المعرفة. إنها إذا حالة التبصر بأمور الذات وتقويم واقعها. ومن هنا تأتي أهمية الوعي، بما هو مقدمة وشرط مسبق لإدارة الذات والنفس واتخاذ القرار والخيار. إننا كما يقول القاموس بصدد ملكة معرفة الذات. وهو ما يصب في المعنى الفلسفي لمفهوم الوعي الذي يدل على الحالة أو الفعل الذي يتعرف فيه الشخص على ذاته بما هي كذلك، ويتميز فيه عن الشيء الذي يعرفه إننا نعي ذاتنا وبالتالي كياننا، كما نعي واقعنا ونحكم على أحواله، في الآن عينه الذي نعي فيه الأشياء أي ندركها ونتعقلها، مما يؤهل المرء لإدارة ذاته والتعامل مع واقعه. كما يعتبر وليم جيمس الوعي أنه ذلك السيل المتحرك دوما من الأفكار والمشاعر والمدركات. كما أكد وليم جيمس انطلاقا من مقولة ديكارت الشهيرة: أنا أفكر إذن أنا موجود على مظهر ثان للوعي أي الوعي بالذات، ففي الآن عينه تدرك فيه الأشياء والوقائع والأفكار، فإننا نعي أننا أصحاب هذه الأفكار وصانعوها. إنها سيطرة
يتبع في الأسفل