مقال جدلي حول مقاييس الحقيقة. خاص بشعبة آداب و فلسفة.
نص السؤال:هل مقياس الحقيقة المنفعة أم الوضوح؟
أهلاً بكم طلاب وطالبات في موقع النابض alnabth بمعلوماته الصحيحة نقدم لكم أفضل الأسئله بإجابتها الصحيحه كما نقدم لكم الأن أعزائي طلاب وطالبات العلم من من الدروس المقترحة والمتوقعة لهذا العام تحضير وتحليل وملخصات شرح وحل أسئلة الاختبارات والواجب المدرسي ونماذج الامتحان ومنهجية الاجابة وكما عودناكم أعزائي الطلاب والطالبات أن نقدم لكم إجابة السؤال القائل ___هل مقياس الحقيقة المنفعة أم الوضوح
وتكون اجابتة الصحيحة
هل مقياس الحقيقة المنفعة أم الوضوح
مقدمة: (طرح المشكلة)
إنطلاقا من كون الإنسان كائنا مفكرا يتميز عن غيره من الكائنات بخاصية العقل فهو لا يكتفي بتلبية مطالبه الحيوية و البيولوجية فحسب ،بل يسعى لطلب الحقيقة بأصنافها و كشف اللبس الذي يكتنف حقيقة الأشياء ، و تعرف الحقيقة على أنها الشيء الثابت الذي لا يكتنفه الشك و الإلتباس و هي كذلك مطابقة الفكر للواقع إلا أن إختلاف الفلاسفة و المفكرين و تضارب آرائهم تمحور حول مقياس الحقيقة إنقسموا على إثر ذلك إلى تيارين متناقضين تيار يرى بأن الحقيقة تقاس بمعيار المنفعة و تيار آخر يرى أن الحقيقة تقاس بمعيار الوضوح و البداهة
و على إثر هذا الجدال الموجود بينهما فإن الإشكال الذي يمكننا طرحه هو : هل معيار الحقيقة هو المنفعة أم الوضوح ؟ و بمعنى آخر هل الفكرة النافعة هي فكرة صادقة بالضرورة ؟
العرض : (محاولة حل المشكلة)
عرض منطق الأطروحة :" المنفعة هي معيار الحقيقة "
إن أساس الحقيقة هو المنفعة فالمقياس الوحيد لصدق الفكرة، هو نجاحها في مجال العمل وما ينجر عن هذا العمل من نفع، على المستويين الفردي والجماعي ، وأن الحكم على الأفكار يتم بالنظر إلى ما تحققه من نتائج عملية ومنافع متعددة ، فهو حكم بعدي وليس قبليا و يمثل هذا الموقف رواد المذهب البراغماتي أمثال "شارلز بيرس ،وليام جيمس ،جون ديوي" و يبرر هؤلاء موقفهم بالحجج و البراهين الآتية:
إذ يقر بيرس أن الحقيقة تقاس بمعيار العمل المنتج وأن الفكرة لا تعتبر مشروعا في ذاته بل بما تحققه من نتائج ، كما يرى وليام جيمس أن النتائج والآثار التي تنتهي إليها الفكرة هي الدليل الأوحد على صدقها وصوابها ،ويشمل ذلك كل مجالات الحياة مادية كانت أم نفسية ، وينطبق هذا التصور على الحقائق الدينية كذلك وعلى رأسها الإيمان بالله وعالم الميتافيزيقا ،وسائر العبادات التي تعد نافعة إذا حققت أثرا طيبا على صاحبها، كالطمأنينة والراحة النفسية ، يقول شارل بيرس « إن الحق يقاس، بمعيار العمل المنتج، وليس بمنطق العقل المجرد، والفكرة هي خطة للعمل ومشروع»، و يقول كذلك "إن تصورنا لموضوع ماهو إلا تصورنا لما قد ينتج عن هذا الموضوع من آثار عملية لا أكثر" فالآثار الفعلية التطبيقية الإجرائية هي المعيار على صدق أفكارنا يقول بيرس "إن المعيار الوحيد الذي يحكم صدق أفعالنا هو قيمة الفعل وفائدته، فإذا لم تكن له فائدة، ولا بدون معنى فإنه خاطئ"
إن الحكم على الفكرة بالصدق أو الزيف حكم نسبي متغير تبعا لتغير الظروف والأحوال ، حيث يرى "وليام جيمس" أن صدقية الأفكار تنطلق من القيمة الفورية"cash value"، ويقول: « إن الفكرة كورقة النقد تظل صالحة للتعامل إلى أن يعترضها معترض(الزمن) ويثبت زيفها وبطلانها. و تستمر صدقيتها ما دامت سارية المفعول فنحقق بها ما نريد من أغراض». ويضرب جيمس مثالا بفكرة وجود بيت آخر الطريق إذا تهت سبيلي في الغابة، ووجدت ما يشبه طريقا معبدا للبقر فإنه يتعين علي أن أضع في ذهني أن آخر الطريق مأوى إنساني، لأني إذا فعلت ذلك فسوف أنقذ حياتي ، على أن هذه الفكرة التي تبدو الآن في حينها صادقة سوف تغدو عديمة القيمة إذا ما حققت هدفي، لتنقل إلى مخزن التبريد وتستبدل بغيرها من الأفكار النافعة يقول جيمس:" إن كل ما يؤدي إلى النجاح فهو حقيقي وإن كل ما يعطينا أكبر قسط من الراحة فهو حقيقي " .و هذا ما نلتمسه كذلك في شعار الولايات المتحدة السياسي « لا يوجد صداقة دائمة ولا عداوة دائمة، هناك مصالح دائمة».
وفي الفلسفة الانكليزية الحديثة فإن مقياس صدق الأفكار هو النتائج الميدانية ،إذ يرى كل من توماس هوبز وجون ستيوارت مل أن الحق والباطل يقاسان بالنتائج ،فكل ما هو نافع حقيقي وكل ضار فهو باطل ، وقد أنكر النفعيون وجود قوة فطرية في نفوس البشر وردوا نشأة الحق والباطل إلى المنفعة التي بينت للناس نوع السلوك الذي يحقق منافعهم ويؤكد سعادتهم، ونوع السلوك الذي يوقع بهم الضرر أو يجلب لهم الشقاء، وبذلك علقوا الحقيقة على جزاءاتها وربطوا بينها وبين نتائج الأفعال دون بواعثها ، وبذلك رفض هوبز فطرية مبادئ الحقائق وأكد على نسبيتها واختلافها باختلاف الزمان والمكان ،أما عن المقياس الذي يستخدم للتمييز بين الحق والباطل فيرتد عندهم إلى ما ينشأ عن أفعال الإنسان من وجدان اللذة والألم، فالفعل حق متى تحقق أو توقع صاحبه أن يحقق نفعا أو لذة أو سعادة ، وهكذا اعتبرت مدرسة النفعيين المنفعة مصدرا لمثلنا العليا وأصلا لمقاييسنا حول المعرفة.
نقد و مناقشة: إن موقف أنصار هذا الطرح ينطوي على جوانب إيجابية من حيث أنهم خاطبوا الطبيعة البشرية والفطرة الإنسانية التي تطلب اللذة وتنفر من الألم،لكن الإفراط في طلب اللذة والمنفعة يعني تجاهل القيم والمثل العليا ،وذلك يعد انتقاصا من قيمة الإنسان،ومن جهة ثانية فإن الأخذ بهذا الموقف يفضي إلى فوضى فكرية نتيجة لتضارب المصالح والمنافع.
عرض نقيض الأطروحة :" الوضوح هو معيار الحقيقة "
إن الوضوح و البداهة هو المعيار الأساسي للحقيقة ، و الأداة الأساسية في البرهنة، و المقياس الذي نميز به بين الأفكار الصحيحة والأفكار الخاطئة، و بين الأفعال الخيرة و الأفعال السيئة، و المنبر الوحيد الذي نطل به على الحقيقة، فجميع المعارف تنشأ عن المبادئ العقلية البديهية الموجودة في العقل. والتي ليست متولدة من الحس أو التجربة، و يمثل هذا الموقف رواد المذهب العقلاني أمثال " ديكارت ،سبينوزا ، مالبرانش ، وليبنتز" و يبرر هؤلاء موقفهم بالحجج و البراهين الآتية:
في العقل مبادئ فطرية و قبلية سابقة عن كل تجربة، و ليست متولدة من الحس، فهي واضحة و بسيطة لا يشوبها الخطأ، عليها تنشأ المعرفة وتتكون الأفكار الصحيحة، مثل مبدأ الهوية القائل أن الشيء هو دائما ذاته، و لا يكون شيئا آخرا، ومبدأ عدم التناقض القائل أن المتناقضين لا يجتمعان معا، فإدراك الحقائق الكلية الصادقة التي تتصف بالضرورة والشمول والبداهة والوضوح لا تكون إلا بالعقل لهذا وصفوه بعض القدامى بأنه "ضرب من العلوم الضرورية، يؤكد استحالة اجتماع الضدين ويمنع كون الجسم في مكانين". و يرى كل من ديكارت وسبينوزا أن الحكم الصادق يحمل في طياته معيار صدقه، وهو الوضوح الذي يرتفع فوق كل شيء، وعلى هذا الاساس لا يكون الحقيقي الا ما هو واضح و بديهي ومن هذا المنطلق نستطيع ان نفهم الكوجيتو الديكارتي انا افكر اذن انا موجود فخاصة التفكير هي حقيقة الوجود البشري حسب ديكارت فاذا توقف الانسان عن التفكير توقف عن الوجود يقول ديكارت :"لاحظت أن لا شيء في قولي أنا أفكر إذن أنا موجود يضمن لي إنني أقول الحقيقة إلا أنني رأيت بوضوح أنه لكي أفكر يجب أن أكون موجودا أولا " ويتجلى هذا كذلك في البديهيات الرياضية التي تبدو ضرورية و واضحة بذاتها كقولنا: الكل أكبر من الجزء أو أن الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين. يقول ديكارت في هذا الشأن " لا أتقبل شيئا على أنه صحيح إلا إذا كان بديهيا " و يرى اسبينوزا أنه ليس هناك معيار للمعرفة إلا الوضوح يقول سبينوزا:" هل يمكن أن يكون هناك شيء أكثر وضوحا ويقينا من الفكرة الصادقة، يصلح أن يكون معيارا للحقيقة؟ فكما أن النور يكشف عن نفسه وعن الظلمات، كذلك الصدق هو معيار نفسه ومعيار الكذب" و يقول كذلك "الحقيقة معيار ذاتها إذ بفضل معرفتها نستطيع تجنب الخطأ و الوهم، فشرط معرفة نقيض الشيء هو معرفة الشيء ذاته "ومن الأفكار الفطرية و البديهية التي يؤكد ديكارت على وجودها فكرة اللانهائي ،فكرة وجود الله بدليل أن الكون جميل وعظيم فإن مبدعه بالضرورة جميل وعظيم، يحوي الكمال الحكمة والتدبير، ويستحيل أن يتخلى عن عباده ومخلوقاته ، فهذه الحقائق تدرك بالعقل عن طريق الحدس من غير مقدمات، و الحدس نور فطري ومعرفة مباشرة ليست مسبوقة بمقدمات يقول ديكارت: "إن حدس البداهة اوثق من الاستنتاج ذاته"، و يقول اسبينوزا: "إن العقل يجد شكله الأسمى و الأصح في الحدس"
ويضع ديكارت البداهة و الوضوح كأول قاعدة في منهجه ومضمون هذه القاعدة هو" لا أقبل مطلقا شيئا على أنه حق، ما لم يتبين بالبداهة أنه كذلك، فالأشياء الواضحة البينة كلها أشياء حقيقية مثل: العمليات الرياضية التي لا يساورنا الشك في صدقها. يقول "ديكارت"لا تصدق إلا ما هو بديهي". و يقول سبينوزا " البديهية هي معيار الصدق و الكذب "
مناقشة:رغم أهمية هذا الطرح إلا أن حصر الحقيقة في معيار الوضوح مبالغ فيه فكثير من الآراء التي تجلت صحتها وادعى اصحابها بانها واضحة اثبت التفكير بطلانها بعد فترة من الزمن،مثل نظرية غاليلي حول الأرض التي اثبتت بطلان الإعتقاد الذي كان سائدا و كذا فكرة البداهة في الرياضيات التي حطمتها الرياضيات المعاصرة يقول بايي : " ان الافكار الواضحة البالغة الوضوح هي في الغالب افكار ميتة" .
التركيب :
و كتجاوز لهذا الجدال يمكن القول أن المقياس الأنسب للحقيقة و صدق الأفكار هو مقياس الوجود لذاته " الإنسان" فالفكرة الصادقة هي التي تهتم بالوجود الإنساني دون سواه ، وكل حديث لا ينبغي أن يخرج عن هذا الإطار، ذلك أن الإنسان هو الأجدر بالاهتمام وهو مقياس تتبناه الفلسفة الوجودية، التي ترى أن مقياس الحقيقة وصحة الأحكام وصدق الأفكار مرتبط بالإنسان كمشروع، يتحدد بالاختيار المسؤول للإنسان بعد أن يوجد، وسعيه لإكمال ماهيته، وما يجب أن يكون عليه وعلى ضوء ذلك تتحدد الحقائق الأخرى، ومن أهم رواد هذا الاتجاه جون بول سارتر الذي يقول: "إن الأشجار والأحجار هي مجرد كائنات وأن الإنسان في هذا العالم هو وحده الذي يوجد "لذاته" أي يمتلك وجدانا " و يقول كذلك "الإنسان مشروع وجود يحيا ذاتيا و لا يكون إلا بحسب ما ينويه و ما يشرع بفعله و بهذا الفعل الحر الذي يختار به ذاته ،يخلق ماهيته بنفسه"
خاتمة: (حل المشكلة)
يلزم التأكيد مما سبق ذكره أن الاختلاف في نظرة الفلاسفة والمفكرين إلى مقياس الحقيقة ، وتضارب آرائهم ومواقفهم حول تلك المشكلة ، لا ينقص من قيمة أبحاثهم، ولا يسيء إلى البحث الفلسفي في هذا المجال، بقدر ما يزيده قيمة إلى قيمته، ذلك أن هذا الاختلاف يعبر بالدرجة الأولى على مدى حيوية الفكر البشري ومدى قابلته للتنوع والتطور, و عليه نستنتج أنه لا يمكن حصر الحقيقة في معيار واحد لأنها محصلة تكامل مختلف المعايير و الأسس و بما أن الحقيقة متعددة فكذلك معاييرها متعددة و الحقيقة اليقينية هي التي تقوم على العقل و مبادئه و تعود على الإنسانية بالمنفعة و تعبر عن حقيقتها بإعتبارها الوجود الحقيقي الأحق بالدراسة الإهتمام.
.